|
|||
---|---|---|---|
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
فقد اختلف الفقهاء في القديم والحديث حيال عدد وقائع الكسوف والخسوف التي حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مناقشة فقه صلاة الكسوف وعدد ركعاتها وتعدد الروايات المنقولة من رواة الحديث رضوان الله عليهم، والمسألة تتطلب تحقيقاً علمياً فلكياً للوقوف على عدد حوادث الكسوف والخسوف في تلك الفترة الغابرة، حيث قمت باستعراض النصوص المنقولة حول صفة صلاة الكسوف هذا من جهة، و بحساب حوادث الكسوف والخسوف في العهد المدني من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سنة 622 م إلى وفاته صلى الله عليه وسلم سنة 632 م وتحليل إمكانية الرؤية مكانياً وزمانياً من جهة أخرى ومن ثم الترجيح بين الرأيين.
ما عدد الكسوفات في العهد المدني؟
ذهب جملة من علماء السلف رحمهم الله تعالى ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وكذا الشيخ العلامة محمد بن عثيمين إلى أن صلاة الكسوف وقعت مرة واحدة فقط في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتكرر!. قال شيخ الإسلام في معرض حديثه عن مسألة عدد ركعات صلاة الكسوف: (والصواب أنه لم يصلّ إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم) أ.هـ. وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة عشر سنوات لم تكسف في عهده الشمس ولا القمر إلا مرة واحدة) أ.هـ.
ومن جهة أخرى سئل فضيلة الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله حول تعدد الروايات في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف؟ فأجاب: (غالب الروايات على أنه صلاها ركعتين؛ في كل ركعة ركوعان وسجدتان، هكذا في صحيح مسلم (صحيح مسلم:3/28) وغيره عن عائشة وأختها أسماء وابن عباس وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن سمرة. وروى مسلم (صحيح مسلم:3/29) وغيره أنه صلاها ركعتين؛ في كل ركعة ثلاثة ركوعات وسجدتان كما في حديث ابن عباس وعائشة وجابر وروى مسلم (صحيح مسلم:3/34) عن ابن عباس أنه صلاها ركعتين، في كل ركعة أربع ركعات وسجدتان، وروى علي مثل ذلك، وروى أبو داود (سنن أبي داود، ومعه كتاب معالم السنن للخطابي: 1/699) أنه صلاها عشرة ركوعات وأربع سجدات مع أن أسانيدها صحيحة ثابتة معتمدة في كثير من الأبواب والأحكام) أ.هـ.
واستطرد فضيلته قائلاً: (وقد ذهب بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى تخطئة الروايات التي فيها الزيادة على ركوعين حيث انفرد بها مسلم عن البخاري، وعلل بأن الكسوف لم يقع إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ... لكن نقول: إن تخطئة هؤلاء الرواة الثقات فتحٌ لباب الطعن في حديثهم ... والأقرب أن يُحمل هذا الاختلاف على تعدد وقوع الكسوف والخسوف، فإن المعتاد وقوعهما في كل سنة مرة أو مراراً و من المستبعد أن لا يقع الكسوف و الخسوف في زمن النبوة عشر سنين سوى مرة واحدة ... وعلى هذا فيجوز للإمام أن يصلي ثلاثة ركوعات أو أكثر في كل ركعة إذا علم أن مدة الكسوف سوف تطول...) أ.هـ.
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى: (حقيقة أن الأحاديث التي وردت في وصف صلاة الكسوف مختلفة جداً وكثير منها صحيح الإسناد وللعلماء فيها مسلكان:
المسلك الأول: الجمع بينهما بحملها على تعدد حصول الكسوف وصلاته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي ذهب إليه إسحاق ورجحه ابن رشد في بداية المجتهد (1/167) وابن حزم في المحلى.
المسلك الثاني: الترجيح قال ابن حجر في الفتح (ج2ص362) نقل صاحب الهدى عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطاً من بعض الرواة فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح) أ.هـ.
قال الشيخ العلامة أحمد شاكر: (ولقد حاولت كثيراً أن أجد من العلماء بالفلك من يظهر لنا بالحساب الدقيق عدد الكسوفات التي حصلت في مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وتكون رؤيتها بها ممكنة وطلبت ذلك من بعضهم مراراً فلم أوفق إلى ذلك ... فإذا عرف بالحساب عدد كسوفات في هذه المدة أمكن التحقيق من صحة أحد المسلكين: إما حمل الروايات على تعدد الوقائع، وإما ترجيح الرواية التي فيها ركوعان في كل ركعة) أ.هـ.
وهذا الاختلاف بين الفقهاء حول عدد وقائع الكسوف والخسوف التي حدثت في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هل هي واحدة أم متعددة؟ وكذا دعوة الشيخ أحمد شاكر السالفة دفعتني إلى أن استعين بالله تعالى وابحث في تلك الفترة الزمنية والتي تمثل العهد المدني والممتدة عبر عشر سنوات هجرية تقريباً بدأً من يوم هجرته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 8 ربيع أول سنة 1هـ الموافق 20 سبتمبر 622م حتى وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 13 ربيع أول سنة 11هـ الموافق 8 يونيو 632م، وذلك لأجيب على سؤال طالما تردد في أوساط الفقهاء.
وعن مدى إمكانية البحث قبل أكثر من 1400 سنة فليس ذلك غريباً أو مستحيلاً قال شيخ الإسلام رحمه الله (ولهذا يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يستقبل كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهلة وما يستقبل؛ إذ كل ذلك بحسبان، كما قال تعالى: ﴿جعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً﴾ وقال تعالى: ﴿والشمس والقمر بحسبان﴾) أ.هـ.
وحيث إن الفترة الزمنية المطلوب الكشف عنها قديمة جداً فقد تم الاعتماد على أكثر من برنامج فلكي متطور ومقارنة النتائج للوصول لأعلى دقة مستهدفة وجاءت النتائج على النحو التالي جدول رقم (1).
إن تحليل معطيات الجدول السابق يسمح باستنتاج الملاحظات الآتية:
1) أن عدد الكسوفات التي وقعت في العهد المدني (9) كسوفات، بينما بلغ عدد الخسوفات (14) خسوفاً ومجموع الحوادث 23 حادثاً.
2) أن جميع الكسوفات التسعة جزئية وليست كلية، بينما الخسوفات منها الكلي ومنها الجزئي.
3) نتائج الحساب الفلكي كدليل علمي تتفق مع نتائج النقل كدليل شرعي وذلك في شأن الكسوف الأخير الذي وقع يوم وفاة إبراهيم رضي الله عنه (27/1/632م)؛ وهذا مؤشر صريح ومطمئن لدقة وصحة الحسابات الفلكية المتعلقة بحوادث الكسوف والخسوف، ومؤشر أيضاً إلى سلامة مذهب علماء الهيئة في شأن نظام جريان الأجرام الثلاث (الأرض، القمر، الشمس).
4) الكسوفات التسعة الواقعة في العهد المدني لا يعني بالضرورة أنه قد تمت مشاهدتها كلها في المدينة المنورة بل بعضها وقع بعد غروب الشمس على المدينة أو قبل شروقها وبالتالي لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضوان الله عليهم الحدث، وهذه الملاحظة تنسحب أيضاً على حوادث الخسوفات فليس كل خسوف ورد في الجدول ممكن مشاهدته في المدينة، ولأهمية هذه النقطة سوف نحلل فقط الحوادث الواردة في الجدول السابق والتي ربما تشاهد في أفق المدينة ولنفصل القول فيها على النحو التالي:
|
|||
|