|
|||
---|---|---|---|
د. عبدالله المسند*
إن إعمال عبادة التدبر والنظر والتفكر أمر مأمورٌ به شرعاً قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، وقال عز وجل: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، والآيات في هذا الشأن والسياق كثيرة عديدة، ولقد أندهش الناس مساء الأربعاء الماضي العاشر من محرم لعام 1430هـ من رؤية مشهد سماوي بصري عظيم شاهده طائفة كبيرة من الناس في السعودية .. ألا وهو احتراق نيزك كبير في السماء لفت انتباه الناس وروعهم وأثار العديد من الأسئلة والاستفسارات.
س: ما الذي حدث بالضبط مساء الأربعاء العاشر من محرم؟
ج: وفق مصادر المعلومات العلمية المحدودة حيال ما حدث فإنه من المبكر تحديد ماهية ما حدث مغرب الأربعاء الماضي على وجه الدقة، إلا أن تحليل مئات المشاهدات في عشرات المدن والمحافظات، والصور المحدودة تشير وبقوة إلى أنه جرم فضائي كبير (نيزك) دخل الغلاف الجوي فوق أجواء المملكة (الوسطى)، وذلك عند الساعة الخامسة وخمسين دقيقة تقريباً، وبسرعة تصل إلى 235000كم في الساعة، وعند دخوله للغلاف الجوي واحتكاكه بذرات عناصره الغازية ارتفعت حرارته لأكثر من 2500 درجة مئوية، حيث بدأ بالاحتراق عندها شوهد بالعين المجردة وهو على ارتفاع يصل إلى 80كم تقريباً، وكان لونه مختلطاً بين الأبيض والأزرق والأخضر، وقبل بلوغه لسطح الأرض شاء المولى عز وجل رحمة بعباده أن ينفجر على ارتفاعات عالية قد تصل إلى 28كم وفقاً لحسابات أولية بناء على سرعة بلوغ الصوت للمشاهد.
س: وأين شوهد بالضبط؟
ج: شوهد في نصف السعودية الشرقي: في الشرقية، الرياض، القصيم، حائل، الزلفي، الوشم، سدير، الدوادمي، الحريق، حفر الباطن وفي الكويت أيضاً، وقد يكون مشاهداً في مناطق أو دول خليجية أخرى لم تبلغني.
س: وماذا حدث بعد انفجار النيزك؟
ج: بعض المشاهدات في سدير والصمان تؤكد أنها سمعت دوياً كدوي الرعد بعد دقيقة وعشرين ثانية وبعض الروايات أطول من ذلك حوالي عشر دقائق واستمر دوي الانفجار لعدة ثواني.
س: وكم تقدر حجم النيزك؟ ج: من المبكر الحديث عن حجمه .. إلا أنه قد يصل حجمه حجم كرة القدم أو أصغر، إذ أن الشهب المعتاد مشاهدتها مساءً تكون عادة بحجم التمرة أو الحمصة، ولو كان قطر النيزك متراً وأكثر لأحدث كارثة طبيعية وسط المملكة والله أعلم وأرحم بعباده. س: ومن أي الاتجاهات الجغرافية ظهر ومن ثم اختفى؟
ج: تختلف حسب موقع المشاهدات .. فمثلاً معظم من شاهده في الرياض يقولون في جهة الشمال وفي القصيم جهة الشرق وفي الشرقية جهة الغرب والدقة في التحديد تفيدنا في تحديد المكان التقريبي للسقوط والارتطام.
س: وهل تعتقد أن النيزك ارتطم بالأرض فعلاً؟
ج: من فضل الخالق على خلقه أن جعل السماء سقفاً محفوظاً قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} يحمي بها العباد والبلاد من أخطار كونية متعددة ومنها النيازك .. لذا فهذا النيزك انفجر قبل بلوغه لسطح الأرض، وتمزق إلى قطع صغيرة حيث شوهد من آلاف الناس، ومن ثم تساقطت هذه الرجوم الصغيرة على وجه الأرض، وهذا قد يفسر مصدر الأصوات المسموعة بعيد الانفجار؟ علماً أن الروايات تختلف في فترة بلوغ الصوت من دقيقة وعشرين ثانية إلى أقل من عشر دقائق .. وهذا قد يفسر بأن أجزاء النيزك المتفككة سقطت في نواحي متفرقة وواسعة وكل قطعة ارتطمت بالأرض أحدثت صوتاً وقبل ذلك صوت الانفجار فوق سطح الأرض والله أعلم.
س: وأين تتوقع سقط النيزك؟
ج: سؤال صعب في ظل عدم توفر الكثير من البيانات الدقيقة، واعتماداً على ما سمعت وقرأت أرشح أن ارتطام الأجزاء الصغيرة والمتناثر وقعت في محيط الصمان أو الدهناء والله وحده أعلم، منها أهيب بجميع رواد البر في تلك المناطق أن يبحثوا عن تلك النيازك المتناثرة جراء الانفجار وإبلاغ الجهات العلمية كجامعة القصيم مثلاً أو غيرها.
س: وما هي أثر السقوط على الأرض.
ج: القطع الصغيرة قد تغور في الأرض لمسافة 1م وقد تخلف حفرة يختلف حجمها حسب حجم النيزك وسرعته ونوعية سطح الأرض. ومن المفارقات العجيبة أن هذه الأحجار والنيازك تزيد من وزن الأرض من 0.7 إلى 7 كغم في الكيلومتر المربع كل سنة.
صورة لقطعة نيزك عثر عليها في إحدى الدول.
س: وكم استغرق الحدث من وقت؟
ج: طول رؤية الحدث تختلف حسب المكان وتتراوح من خمس ثواني إلى خمس عشرة ثانية ويشار إلى أن الإضاءة الشديدة أربكت السائقين داخل وخارج المدن كما أربكت المصلين لصلاة المغرب في البر.
س: ومما يتكون النيزك؟
ج: وفقاً لتحليل العلماء فإن النيازك التي تم تحليلها في العالم تنقسم إلى أربعة أقسام: الأول: نيازك حديدية تتكون في معظمها من الحديد والنيكل والكوبالت، الثاني: نيازك حجرية مشابهة بوجه عام لتركيب صخور الأرض، وثالثة: نيازك مختلطة بين الأول والثاني، ورابعة: نيازك زجاجية.
س: وهل ما حدث نيزك أم شهاب؟
ج: لا مشاحة في الاصطلاح بعضهم يطلق على الظاهرة اسم شهاب وعندما ترتطم بالأرض نيزك، والظاهرة التي نحن بصددها تسمى بالكرات النارية Fireballوهي التي تخلف ذيلاً مضيئاً ودخاناً وانفجارات في السماء ونوراً ساطعاً أقوى من القمر، ودوياً كالرعد ومثل هذه قد ترى في وضح النهار.
صورة نادرة التقطت في بريطانيا لنيزك يحترق.
س: هل تتكرر أحداث كهذه؟
ج: بالشكل والحجم المشار إليه قليل ونادر عالمياً ولعل آخر كرة نارية حدثت في المنطقة في 23 محرم 1413هـ الموافق 23 يوليو 1992م عند منتصف الليل ولكنها أقل شدة وقوة من الأخيرة. أما الأحجام الصغيرة جداً من النيازك والتي تدخل الغلاف الجوي الأرضي قد تتكرر في اليوم نحواً من 75 مليون نيزك، ويستطيع المشاهد أن يلمح حوالي 10 نيازك أو شهب بالعين المجردة في كل ساعة وذلك في الحالات العادية غير وقت الانهمارات النيزكية الدورية.
س: هل من الممكن التنبؤ بسقوط نيزك كبير كهذا؟
ج: بالتأكيد لا .. لأن حجمها أصغر من أن تكتشفه الرادارات الفضائية والتلسكوبات فلا نعلم عنه حتى يدخل في أجواء الغلاف الجوي، بينما إذا كان كبيراً وقطره بالأمتار فإن الرصد الأرضي من قبل العلماء يكتشفه ويحدد مكان وزمان دخوله للأرض وارتطامه .. وهذا ما حصل فوق الأجواء السودانية مطلع أكتوبر الماضي عندما ارتطم نيزك (2008 سي سي3) شمال السودان وفق ما تنبأ به العلماء.
س: وهل تشكل الشهب والنيازك خطراً على خطوط الطيران الجوية؟
ج: من فضل الله أن الشهب غالباً تحترق بارتفاعات أعلى من مستوى خطوط الطيران الجوية، بينما النيازك الكبيرة كالتي حدثت يوم الأربعاء 10/1/1430هـ قد تشكل خطراً على من في الأرض والسماء؛ أي أنها تدمر كل ما يوجهها من طائرات أو سيارات أو حتى مباني .. ولكن نسبة اصطدامها بطائرة كنسبة اصطدام حمامتين تحلقان فوق أجواء السعودية النسبة قائمة ولكنها ضئيلة جداً والله الحافظ.
س: ومن أين تأتي هذه الشهب والنيازك؟
ج: يعتقد أن النيازك مصدرها الكويكبات الواقعة بين كوكبي المريخ والمشتري وهي مصدر خطر على كل الكواكب ومنها كوكب الأرض بينما الشهب جسيمات صغيرة تكون بحجم حبة الحمصة تقريباً ويعتقد أنها من مخلفات المذنبات، وعندما تصطدم بالغلاف الجوي الأرضي يحدث احتكاكاً بينها وبين جزيئات الهواء فتحترق مشكلة ذيلاً متوهجاً على ارتفاع يصل إلى 80 كم فوق سطح الأرض تقريباً.
س: وماهي حقيقة الشهب؟
ج: الجميع قد شاهد خيوطاً ضوئية تنهمر من السماء ليلة ما، وهذا ما يٌدعى بالشهب Shooting star وهي عبارة عن أجرام صغيرة جداً (قيل أنها من مخلفات المذنبات Comets) والتي يتقاطع محوراها مع محور كوكب الأرض مما يؤدي إلى جذبها بواسطة الجاذبية الأرضية، وعندما تدخل في الغلاف الجوي بسرعة عالية جداً تقدر بحوالي 235000كم/ساعة وبفعل عامل الاحتكاك مع عناصر الغلاف الجوي تسخن فتتوهج وتحترق وقد تتفجر في الهواء أثناء اختراقها لطبقات الغلاف الجوي فتصبح رماداً بإذن الله تعالى، وتراها العين المجردة لبضع ثوان في مشهد يأخذ بالألباب.
س: وما مقدار حجم النيازك بشكل عام؟
ج: بعض النيازك كبيرة لدرجة يتمكن معها من اختراق الغلاف الجوي بسرعة خاطفة فيضرب سطح الأرض بعنف شديد عندئذ يُسمى نيزكاً Meteor. وأحجام النيازك التي تسقط على الأرض تتراوح من بضع سنتيمترات إلى بضع كيلومترات وعندما تصبح بهذا الحجم تُسمى كويكباً Asteroidأو مذنباً.
س: وهل يشكل خطورة على الأرض وسكانها؟
ج: يكفي أن نشير إلى أن نيزكاً بحجم سيارة كفيل بمحو وسحق مدينة كبيرة، ولقد تعرض كوكب الأرض عبر تاريخه القديم لضربات سماوية موجعة من قِبل النيازك والمذنبات والكويكبات أدى بعضها بالضرورة إلى تغير في مناخ كوكب الأرض قاطبة واستمر التغير لفترة طويلة مما ساهم في انقراض مجموعات من النباتات والحيوانات على وجه البسيطة.
س: وماذا عن أبرز الارتطامات النيزكية التاريخية؟
ج: كوكب الأرض عبر تاريخه الطويل شهد العديد من الارتطامات والرجوم السماوية العنيفة والتي تركت آثاراً مناخية وجغرافية وبيئية بل وجيومورفولوجية محسوسة بعد ملايين السنين من حدوثها. وتعد حادثة Chicxulub في شبه جزيرة ياكوتان في المكسيك والذي يقدر العلماء أنه اصطدام كويكب أو مذنب بالأرض قبل 65 مليون سنة تقريباً، والبالغ حجمه حوالي 10كم يعد من أكبر وأعظم الرجوم السماوية المكتشفة التي ارتطمت بالأرض، بل وغيرت مجرى الحياة آنذاك وخلف الارتطام دائرة قطرها 180كم! لتكون شاهداً محسوساً يكتشفه الإنسان بعد 65 مليون سنة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}.
س: وما الذي نتج عن الارتطام؟
ج: أولاً العلماء قدروا قوة الارتطام بـ2 مليون مرة من أقوى انفجار صنعه الإنسان. واكتشف العلماء موقع الرجم في المكسيك الذي (نصفه بري والنصف الآخر بحري) كما نتج عن هذا الاصطدام انقراض حوالي 70% من الحياة الفطرية ومنها الديناصورات، ويصف العلماء هذا الحدث أنه تسبب بظلام بهيم فوق سطح الأرض جراء الارتطام العنيف، الذي رفع أحجاراً إلى الغلاف الجوي، فضلاً عن أطنان من الغبار والتراب استمرت حوالي 6 أشهر، حجبت أشعة الشمس وأدت إلى تبريد الأرض وتوقف التمثيل الضوئي والذي نتج عنه بالضرورة إلى هلاك النبات والحيوان إلا ما شاء الله، وأظن لو الإنسان كان موجوداً إبان الاصطدام لما نجا منه إلا عدد ركاب سفينة نوح عليه السلام والله أعلم.
س: هذا قبل 65 مليون سنة وماذا عن العصر الحديث؟
ج: في العصر الحديث وبالتحديد في 30 يونيو 1908م وفي الصباح الباكر دخل حجر نيزكي كبير إلى الغلاف الجوي الأرضي، واختلف العلماء في حجم قطره من 30م – 1200م، وتقدر سرعته بـ 54000كم/ساعة. ووفقاً لشهود العيان وعلى بعد 400كم من الموقع شُوهد النيزك بالعين المجردة بحجم يعادل ضعف حجم قرص الشمس كما يُرى من على سطح الأرض، على هيئة كرة كبيرة ملتهبة مشتعلة منقضة بسرعة عالية ومصحوبة بصوت قاصف عاصف مزمجر ... وفجأة وقبل اصطدامها بالأرض بحوالي 6 كم ارتفاعاً، حدث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر آنذاك حيث انفجر النيزك في سماءTunguska في سيبيريا انفجاراً لم يسمع الإنسان مثله في العصر الحديث، بل يعتبر أكبر ارتطام نيزكي مسجل في التاريخ ( قُدر بـ 1000 مرة أقوى من قنبلة هيروشيما)، نتج عنه تحطيم واقتلاع 60 مليون شجرة صنوبر بمساحة تقدر بـ 2150 كم2 .
س: وهل فعلاً شوهد النيزك أثناء انفجاره؟
ج: بالتأكيد .. شهود العيان ذكروا أن شدة الانفجار حطمت النوافذ على بعد عشرات الكيلومترات وأصابت المشاهد بالعمى المؤقت وأسقطهم أرضاً في محيط 60 كم، وفي محيط 30كم تطاير السكان في السماء من شدة موجات الهواء المتفجر فسقطوا أرضاً فاقدين الوعي .. ويُذكر أن تردد موجات الانفجار سُجلت بواسطة أجهزة قياس الزلازل على بعد 1000كم كما شُوهدت سحب الانفجار على بعد 170 كم.
صورة كما تخيلها الرسام لنيزك Tunguska 1908م في سيبريا قبيل انفجاره على بعد 400 كم وفقاً لشهود العيان.
لحظة انفجار نيزك Tunguska 1908م كما شُوهدت على بعد 60 كم كما تخيلها الرسام وفقاً للشهود.
الدمار بعد انفجار نيزك Tunguska 1908م في سيبريا كما تخيلها.
س: وماذا عن النيازك في السعودية؟
ج: من أشهر النيازك المكتشفة في السعودية نيزك الوبر في الربع الخالي والذي حدث والله أعلم خلال الـ 400 سنة الماضية، وتم اكتشافه بواسطة الرحالة الإنجليزي عبدالله فلبي عام 1932م. ويقدر وزنه بـ 3.5 طن، وسرعته عند دخوله الغلاف الجوي تقدر بـ 25000كم/ساعة. فخلّف النيزك ثلاث فوهات مختلفة الأحجام 116، 63، 11م وبفعل حركة الرمال السريعة مولئت الفوهات بالرمال في وقتنا الحاضر.
صورة حديثة لموقع ارتطام نيزك الوبر في الربع الخالي الذي سقط قبل حوالي 400 سنة.
صورة فضائية نادرة لآثار ارتطام نيزك كبير جداً وقديم جداً شرق مدينة تبوك شمال السعودية قطره 5كم (لم أجد عنه أي معلومة مكتوبة في المصادر العربية والإنجليزية على الرغم من حجمه الهائل ولعله لم يكتشف علمياً حتى الآن والله أعلم).
* عضو هيئة التدريس بقسم الجغرافيا بجامعة القصيم.
|
|||
|