|
|||
---|---|---|---|
بسم الله الرحمن الرحيم
:. السعوديون مهووسون بالصحراء وأجوائها، وشغوفون بارتياد البراري وأكنافها، حيث رمال الغضا، وفياض السدر، وأودية الطلح، ورياض الخزامى، بل لا أبالغ أنهم من أكثر الشعوب اقتناءاً لسيارات الدفع الرباعي، وسياراتهم وبيوتهم مدججة بلوازم الرحلات والكشتات، ولا يكاد يخلو بيت من بندقية وصياد، هوس بدأ يتصاعد ويتزايد في العقد الأخير بشكل لفت أنظار المراقبين. ويأتي هذا الميول في ظل خصائص طبيعية ونوعية متميزة في بلادنا الصحراوية، حيث تشح الأمطار وتنعدم الأنهار وتندر الأشجار وتسود القفار، كل هذا يدفعنا قسراً إلى الاهتمام المتزايد ببيئتنا الصحراوية ومتنزهاتنا البرية، وبما تحتضنه من نطاقات خضراء محدودة جداً ذات مناظر خلابة نجدها هنا أو هناك تمثل لنا متنزهات طبيعية ذات موارد فقيرة.
*****
:. ويمثل الحفاظ على مقومات البيئة الطبيعية بعناصرها المختلفة مطلباً دينياً ووطنياً ملحاً تجهد لتحقيقه كافة الدول المتحضرة عبر اعتمادها على نشر الوعي البيئي من جهة وتسخيرها لمعطيات العلم والعمل من جهة أخرى؛ كيما يتسنى لها العيش في كنف بيئة متوازنة تحمل السعادة لسكانها حاضراً ومستقبلاً .. ومن المسلّم به أن ما سندعوه (بالإرهاب البيئي أو فوضى السياحة البرية) وما ينجم عنه من فساد في مكونات البيئة الطبيعية ينعكس بالضرورة سلباً على قاطني تلك البيئة التي أصبحت مصابة بخلل في التوازن ناجم عن نشاط بشري غير مسؤول (لفئة) عابثة مفسدة لا يستطيع أفرادها أن ينظروا لأبعد من أنوفهم وذلك لإشباع أنانيتهم ونزواتهم غير مكترثين بأبعاد نتائج الإفساد البيئي الشرعية والطبيعية والحضرية و "من نظر في العواقب سلم من النوائب".
*****
:. وفي هذا السياق نجد جملة من سلوكيات الرحلات البرية الخاطئة لدى هؤلاء "الفوضويين" من مثل ترك النفايات مبعثرة وقطع الأشجار المعمرة والتفحيط فوق أديم الرياض والفياض المزهرة، وهؤلاء المفسدون في الأرض لا يعلم أكثرهم أنهم يبصقون في الإناء الذي يشربون منه ومصيرهم هو العودة للمكان نفسه مرة ثانية، وفي الحديث {من آذى المسلمين في طُرُقِهم، وجبتْ عليه لعنتُهم} فما بالك في مجالسهم، والصيادون من "الفوضويين" يعمدون إلى إطلاق النار على كل ما يدب على الأرض أو يطير في السماء حتى الخفاش لم يسلم منهم و {مَا مِنْ إنسان يقتل عصفورًا فما فوقها بغير حقّها، إلا سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله، وما حقُّها؟ قال: "حقُّها أن يذبحها فيأكل، ولا يقطع رأسه فيرمي به}.
*****
:. وعندما أكتب عن الإرهاب البيئي أو فوضى السياحة البرية في ربوع بلادنا، فأنا أتحدث عن مشكلة الفوضى العارمة التي يحدثها فئة ليست بالقليلة من مرتادي البر وخاصة الشباب منهم، حينما يمتطي الواحد منهم صهوة سيارته أو دراجته ليعبث بكل مقدرات البيئة الطبيعية للمنتزه دون ضمير يؤنبه أو حساب يردعه، إذ لا يكاد يخلو متر مربع واحد في متنزهاتنا من (جادة) اختطتها عجلات السيارات والدراجات السارحة بعشوائية صباح مساء في حركات ديناميكية زئبقية لا تتوقف، حتى إنك لتكاد ترى كثرة (الجواد) المطبوعة على الأرض والمتداخلة فيما بينها وكأنها شبكة صياد، أو بيت عنكبوت، مما نتج عنه تفكيك جزيئات التربة السطحية، وهلاك الأعشاب البرية وانحصارها في زوايا ضيقة، واختفاء الكثير من الشجيرات الصحراوية، وهذه إشارة واضحة ونموذج سلبي لمظاهر الفوضى السياحية البرية، التي بدورها تساعد على تسريع عملية التصحر وتدهور البيئة الطبيعية .. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
*****
:. إنني أعزو ـ وبلا تردد ـ مشكلة تدهور مقومات الجمال الطبيعي لمتنزهاتنا البرية وتدهور الغطاء النباتي وما يترتب عليه من زحف للرمال واختلال في التوازن البيئي إلي السيارات الجوالة والدراجات الحوامة والرعي الجائر وأخيراً وليس آخراً عملية الاحتطاب؛ ولهذا غدت بعض متنزهاتنا مجرد طرق وجواد وأتربة مفككة وأشجار مكسرة ونفايات مبعثرة وغبار متطاير تعكس لنا عن علاقة متوترة بين الإنسان وبيئته التي تحتضر وتئن تحت وطأة "فوضويين" يزعمون أن الله سخرها حصرياً لهم، أما البقية والأجيال القادمة فلهم السبخة أو الجحيم حتى.
*****
:. إن رواد البر "الفوضويين" الذين لا يتأدبون بأدب الرحلات، ولا يكترثون بحماية البيئة الطبيعية وفقاً لأوامر الشريعة الإسلامية هؤلاء يمارسون هوايتهم في الإفساد في الأرض ـ وللأسف ـ على حساب الآخرين وعلى حساب بكارة الطبيعة التي خلقها الله عز وجل باتزان {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}، وهم ينسون أو يتناسون أن الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار كما جاء في الحديث الشريف، بل وتمارس هذه الفئة تدمير عناصر البيئة وكأن الساعة تقوم غداً !! وحتى {إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها} كما أخبر بذلك رجل البيئة الأول وقدوتنا صلى الله عليه وسلم.
*****
:. "الفوضويون" هم أول الخاسرين لمنتزهاتهم عندما تتحول في المستقبل القريب إلى مجرد كثبان رملية متحركة تعصف بها الرياح، وتخلو من أبجديات الجمال الطبيعي التي وهبها الله تعالى، ولئن قسوت على هذه الفئة من أخوتي هواة البر فسيدركون أنها قسوة محب إن هم تمثلوا قول الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبه *** وربما صحت الأجساد بالعلل
:. وفي المقابل هناك فئة قليلة وهم الذين يصح أن نطلق عليهم "البيئيون" حيث يمارسون السياحة البرية دون أن يخلّفوا أثراً سيئاً علي البيئة وهم بذلك يستمتعون أكثر من "الفوضويين" بل و يتجاوز بعضهم ذلك إلى محاولة إصلاح ما أفسده "الفوضويون" ولكن..
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه *** إذا كنـت تبنيه وغيرك يهدم
ولو ألف بان خلفهم هادم كفى *** فكيف ببان خلفه ألف هادم ؟!
*****
:. والخشية إن بقي الأمر بهذه الفوضى غير المسؤولة لكل من هب ودب يعبث كيف شاء ومتى شاء وأينما شاء في متنزهاتنا البرية دون تدخل الجهات ذات العلاقة والغيورين على وطنهم أن تصبح منتزهاتنا أسماءً بلا واقع وأعلاماً بلا حقيقة وأثراً بعد عين وكثباناً زاحفة متمردة مُلوثة ببقايا "الفوضويين" شاهدة على حقبة تاريخية جاهلية تحكي لنا قصة قوم لا يفقهون!؟ و "لكل شمس مغرب" والله المستعان.
*****
:. وتأكيداً لما سبق يكفيك المقارنة بين فياضنا ورياضنا وأوديتنا ورمالنا البرية الذهبية قبل 30 سنة وبين الوقت الحاضر سنجد أن البون شاسع والفرق واضح فاضح بين البيئتين. وبيئتنا الصحراوية من أشد البيئات الجغرافية حساسية وتأثراً بالنشاط البشري وإن أي إجهاد لها سوف يؤدي إلى تدهور سريع وملموس، ربما خلال بضع سنين، هذا إذا كان النشاط منظماً فما بالك بنشاط فوضوي كالذي نشاهده ونلمسه.
*****
:. وعليه أتقدم بتوصيات عاجلة تكفل بإذن الله تعالى إيقاف الإرهاب البيئي ولو جزئياً، وإعادة فياضنا ورياضنا وأوديتنا ومنتزهاتنا لطبيعتها التي فطرها الله عليها كما كانت قبل مجيء "الفوضويين" الجدد وذلك من خلال ما يلي:
1- دعم الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها بما يكفل قيامها بدور أكبر وأوسع.
2- زيادة عدد ومساحة المحميات الطبيعية من فياض ورياض وأودية من قبل وزارة الزراعة.
3- إنشاء "الشرطة الخضراء" العلنية والسرية لمراقبة سلوكيات المتنزهين والصيادين في المواقع السياحية البرية المشهورة.
4- سن وتفعيل القوانين والتشريعات الرادعة عن عبث العابثين، قال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: " والشرع أتاح لولي الأمر فرض بعض العقوبات التعزيرية التي من الممكن اللجوء إليها في عصرنا الحالي لمن يسيئون إلى البيئة".
5- تنمية الوعي بحقوق البيئة عقلاً وشرعاً وتبصير النشء بحقيقة الموقف الإسلامي الأصيل من البيئة والحفاظ عليها {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}.
6- تأسيس جمعية أصدقاء البيئة في كل مدينة ومحافظة.
7- تكثيف الحملات الإعلامية بشأن المحافظة على البيئة.
8- إعداد دراسة جغرافية بيئية عاجلة حيال المناطق السياحية الصحراوية المتدهورة وتقييم حالتها.
9- دعوة البنوك لدعم مشاريع الأعمال الخضراء وحماية البيئة وإعادة تأهيلها ومشاريع التشجير وغيرها.
10- الحد من استيراد الآفة (الدبابات) وتضييق الخناق عليها بيعاً واستئجاراً.
11- وضع أولويات البيئة ومقوماتها ضمن استراتيجيات السياحة الصحراوية.
12- والتوصية الأخيرة مفتوحة للجميع أن يساهموا بكتابتها والمطالبة بها.
*****
:. هذه توصيات واقتراحات وغيرها كثير وهي ليست ثقيلة أو مستحيلة و"الذي يولد ليزحف .. لا يستطيع أن يطير". وعند تفعيل تلكم التوصيات وبعد برهة من الزمن لن تطول .. أزعم أن النتائج التي ستتمخض عنها ستحقق بإذن الله تعالى إعادة التوازن البيئي للبيئات المتدهورة، وستعود المنتزهات البرية ملاذاً وعلاجاً لهمومنا العصرية .. وهي لن تطول بإذن الله تعالى وفي بذور اليوم أزهار المستقبل، فإن أبيتم عن أخذها و "تركتم الدرعى ترعى" فما حيلتي إلا أن اُردد مع أبى الطيب:
ولم أر في عيوب الناس عيباً *** كعجز القادرين على التمام.
*****
* رئيس المجموعة التخصصية لدراسات المناخ والبيئة والمياه في الجمعية الجغرافية السعودية.
صفر 1430هـ
|
|||
|