|
|||
---|---|---|---|
***** هل المناخ تغير فعلاً ؟
:. لم يكن التغير المناخي Climate change في العقود الأربعة الأخيرة نظرية أو فرضية فحسب، بل هو واقع ملموس وأمر محسوس، فالسجلات المناخية العالمية المئوية حافلة بشواهد غنية وأدلة قطعية، على أن عناصر المناخ تغيرت وأصبحت أكثر تطرفاً وعنفاً وعلى وجه الخصوص درجة حرارة سطح الأرض والمحيطات حيث ساهمت في الغالب وبشكل سلبي على الإنسان والنظام البيئي على حد سواء. وما ذوبان الجليد القطبي والأنهار المتجمدة والذي أعقبه ارتفاع مستوى سطح البحر إلا شواهد محسوسة وأدلة مقيوسة لمن كان عنده شك وارتياب. ولقد أثبتت الدراسات العلمية المحكمة أن معدل درجة حرارة الأرض خلال القرن العشرين قد أصبح أكثر سخونة من أي قرن مضى، حيث ارتفع معدل درجة الحرارة بمقدار 0.6 درجة مئوية ليأتي العقد الأخير (التسعينات) من القرن الماضي كأسخن عقد في القرن العشرين، وتعتبر السنوات الاثنتى عشرة الأخيرة (من عام 1995-2006م) أكثر السنوات سخونة منذ عام 1850م إذ ارتفع معدل الحرارة العالمي 0.74 درجة مئوية وارتفع منسوب سطح البحر بمعدل 3.1 ملم سنوياً منذ عام 1993م، وأما القطب الشمالي فقد واصل تقلصه بمعدل يصل إلى 2.7% في العقد الواحد. ومحلياً فقد أثبتت دراسة سابقة لي على وسط المملكة أن درجة الحرارة ارتفعت بمعدل 1.5درجة مئوية خلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي.
*****
ما هي أسباب تغير المناخ ؟
:. على الرغم أن معظم علماء المناخ يتفقون على وجود ظاهرة التغير المناخي الحالي إلا أنه يظهر لغط وجدل حيال سؤال جوهري: من الذي يقف خلف هذا التغير المناخي الحالي؟. ففي الوقت الذي يذهب فيه كثير من علماء المناخ إلى أن المتهم في ذلك هو النشاط البشري Human activitiesفي المقام الأول عبر انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي كثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان، في حين أن الأقلية منهم يبرئون الإنسان من تلك التهمة مشيرين إلى أن عوامل طبيعية دورية تقف وراء تلك التغيراتأو التذبذبات المناخية.
*****
:. وفي ظل حدوث تغيرات مناخية دورية قديمة قبل استخلاف الإنسان في الأرض أحسب أنه من الصعوبة بمكان إصدار الحكم الجازم في الوقت الراهن والقول أن أنشطة الإنسان تقف خلف تغير المناخ الحالي 100%، إذ أن تغير المناخ مسألة طبيعية معقدة وشائكة تقف نتائج الدراسات المناخية لها بذلك شاهدة. وما زالت النماذج العددية (Atmosphere-Ocean General Circulation Model) ومعها سيناريوهات انبعاثات غازات الدفيئة (Greenhouse Gas emission scenarios) تعطي نتائج متوافقة من جهة ارتفاع درجة حرارة الأرض، وفي الوقت نفسه متباينة بشكل واضح في نسبة الارتفاع مما يدفعنا إلى التريث في توجيه التهمة للإنسان، كما أن استشراف مستقبل الأرض المناخي لمائة سنة قادمة عبر عمليات رياضية معقدة مسألة صعبة في ظل وجود عدة عوامل تؤثر في المناخ.
*****
هل هناك شواهد على تغير المناخ الحالي ؟
:. يرى كثير من العلماء أن النشاط البشري في المائة سنة الأخيرة قد أثر على المناخ وقاده إلى الاحترار العالمي Global warming وقد أكد تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي (IPCC) لعام 2001م إلى أنه توجد دلائل وشواهد قوية على أن النشاط البشري يقف خلف ارتفاع درجة الحرارة. واعتماداً على آخر السجلات المناخية خلال القرن العشرين فإن درجة الحرارة ما زالت في طور الصعود والارتفاع والتغير. وأشار مكتب الأرصاد الجوية البريطاني (Met Office) أن نتائج النماذج العددية التنبؤية (GCMs) تشير إلى أنه إذا استمرت معدلات انبعاث غازات الدفيئة بمستواها الحالي فإنه سيحدث تغيرات كبيرة وواسعة في المناخ. وفي السياق نفسه تتوقع بعض الدراسات المعتمدة على العديد من سيناريوهات الانبعاثات الغازية والنماذج العددية على أنه إذا استمر حرق الوقود الاحفوري بالكميات الحالية فإن نسبة ثاني أكسيد الكربون ستتضاعف في الغلاف الجوي بحلول 2050م وهذا سيساهم بالضرورة بارتفاع درجة الحرارة بمعدل 1.4 درجة مئوية إلى 5.8 درجة مئوية بنهاية القرن الحالي والله أعلم.
*****
وهل الأمطار ستتأثر سلباً أو إيجاباً في ظل التغير المناخي؟
:. فيما يتعلق بعنصر المطر فإن الاختلاف بل والتخبط ينتاب النماذج المناخية العددية وسيناريوهات الانبعاثات الغازية بشكل أكبر وأوسع من عنصر الحرارة، وهناك الكثير من الدراسات المناخية التي أشارت إلى وجود الكثير من عدم الثقة في مخرجات النماذج العددية المتعلقة بالتنبؤ بعنصر المطر لسنوات قادمة، كما أكدت الدراسات أن الاختلاف في التوقع لعنصر المطر ليس فقط في الكمية بل وحتى في التوزيع المكاني والزماني، وثقة العلماء في النماذج العددية المتوقعة للتغير في عنصر المطر ضعيفة، ومصادر عدم الثقة في النماذج يعود إلى أن عمليات استقراء مستقبل التغير في عنصر المطر تعد ثانوية في هذه النماذج العددية (GCMs)، أضف إلى ذلك أن عنصر المطر من الصعب تقديره وفقاً للتنبؤات العددية خاصة في المناطق شبه المدارية حيث يتشكل المطر أحيناً وفق ظروف محلية ناتجة عن القوى الحملانية.
وعلى الرغم من ذلك كله فإننا نستأنس ببعض النتائج في هذا الاتجاه حيث دلت نتائج النموذج البريطاني HadCM3 حول الأمطار في الشرق الأوسط إلى توقع انخفاض في معدل سقوط المطر مما يساهم في المزيد من فترات الجفاف والتصحر في المنطقة.
*****
وماذا عن تغير المناخ في السعودية؟
:. أجريت في دراستي السابقة عام 2005 دراسة لاستقراء التغير المناخي لدرجات الحرارة في وسط السعودية حيث أظهرت النتائج أن معدل ارتفاع درجة الحرارة خلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي بلغ 1.5 درجة مئوية، وفيما يتعلق بالمستقبل واعتماداً على ثلاثة نماذج عددية عالمية (HadCM3 بريطاني، CGCM2 كندي، ECHAM4 ألماني) وسيناريوهين للانبعاثات الغازية فقد أثبتت مخرجات النماذج أن معدل درجة الحرارة على مستوى وسط المملكة سيرتفع بمعدل 0.4º م – 1.6º م بحلول عام 2020م، بينما تتوقع الدراسة أن يرتفع معدل درجة الحرارة عام 2080م من 2º م – 4.8º م ، أما على مستوى التغير في كمية المطر في السعودية أشارت مخرجات النماذج الثلاثة المذكورة أنه لا يوجد نمط أو اتجاه واضح للمطر خلال العقود القادمة حيث تشير النتائج إلى أن التغير يقع بين ناقص 20 ملم وزائد 30 ملم سنوياً مقارنة بفترة 1971م – 2000م والله أعلم.
*****
وهل تغير المناخ سيؤثر على مصادر المياه في السعودية؟
:. تعاني المملكة كما نعلم من شح خطير وقصور كبير في موارد المياه دفع صانعي القرار وفي وقت مبكر إلى استخدام تقنية متقدمة ومكلفة لتحلية مياه البحر للاستخدام البشري حتى أصبحت المملكة الأولى عالمياً في هذا المجال، وجاء هذا القرار بعد نضوب بعض الآبار أو تغير جودة المياه فيها والذي جاء متزامناً مع نمو سكاني وحضري كبيرين. أضف إلى ذلك أن الدراسات الحديثة تؤكد أن تغير المناخ العالمي سيؤثر على طلب المياه في ثلاث قطاعات رئيسة: المدنية والصناعية كما الزراعية أيضاً، وعبر دراسة قمت بإعدادها عن التغيرات المناخية المستقبلية في المملكة دلت النتائج أن ارتفاع درجة الحرارة في المملكة سترفع من معدلات عمليتي البخر والنتح وهذا يعني بالضرورة أن معدلات الاحتياجات الزراعية من مياه الري سترتفع، وعلى سبيل المثال فإن محصول القمح سيحتاج إلى 3% زيادة في معدلات الري عام 2020م بينما عام 2080م قد تصل بالمتوسط إلى 11%، وهذا يعني أن ارتفاع درجة الحرارة درجة مئوية واحدة فقط سينتج عنها زيادة في مياه الري لمحصول القمح بمعدل 103 متر مكعب لكل هكتار في الموسم! أي بزيادة 46.4 مليون متر مكعب وفقاً لمساحة زراعة القمح في المملكة لعام 2007م.
*****
ولكن هناك انحسار في رقعة مساحة القمح يقابلها زيادة وتوسع في زراعة النخيل فما هو رأيك؟
:. القطاع الزراعي يستهلك 86% من إجمالي المياه المستهلكة في المملكة! .. ومن وجهة نظري الخاصة أؤيد تقليص مساحة القمح وغيرها من المحاصيل، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن التوسع في زراعة النخيل أحسب أنه قرار مجانب للصواب لأسباب منها: أن مساحة الأراضي المزروعة بالنخيل حالياً تكفي سكان المملكة حتى عام 2037م إذ أن كمية إنتاج التمور في المملكة لعام 2007م ـ على سبيل المثال ـ بلغت 983 ألف طن بينما عدد سكان المملكة السعوديين 17 مليون نسمة، وبقسمة الكمية على العدد يكون نصيب الفرد حوالي 160 غراماً يومياً! وبعبارة أخرى يأكل كل مواطن 11 تمرة في اليوم وهذا حجم كافي بل وكبير للفرد الواحد، ولو افترضنا جدلاً أن نصف المواطنين أطفال وكبار لا يأكلون التمر فإن نصيب النصف الباقي 22 تمرة في اليوم، والواقع أن جزءاً من الإنتاج يصدر وآخر يستخدم (مع الأسف طعاماً للحيوانات) وهذا فيه هدر لموارد المياه الشحيحة أصلاً .. إذ أن تصدير كل كيلوغرام واحد من التمر يقابله تصدير 6 أمتار مكعبة من المياه المستخدمة في الري، إذ أن كل هكتار من النخيل يحتاج في المتوسط إلى حوالي 37910 أمتار مكعبة من الماء لكل هكتار سنوياً، وهذا يعني أن كمية المياه المستخدمة للنخيل تفوق ما يستخدم للقمح بحوالي عشرة أضعاف. وبالتالي فإن مشكلة الحفاظ على المياه الجوفية لم تعالج بل تفاقمت وفقاً لهذا التوجه (النخيل على حساب القمح)، والظروف الطبيعية للمملكة حساسة للتغير المناخي إذ تعتمد الزراعة في المملكة وبشكل شبه كلي على المياه الجوفية ومعظمها غير متجدد على المدى القصير والله أعلم.
*****
هذا على مستوى المياه والزراعة، ولكن ماذا عن الأثر السلبي لارتفاع درجة الحرارة وتغير المناخ في المستقبل على بقية الأنشطة والقطاعات؟
:. سؤال كبير ويحتاج إلى بسط لا يستوعبه المقام، ولكن وباختصار سيرتفع الطلب على المياه، والكهرباء وبالتالي سترتفع فاتورة الاستهلاك، ويتعاظم الإحساس بالإرهاق لدى الناس في أشهر الصيف، كما ترتفع معدلات البخر والنتح وجفاف التربة والرطوبة النسبية وربما يساهم في تقليل نسبة التهطال والجريان السطحي وتتأثر سلباً بعض المحاصيل الزراعية، والحياة الحيوانية إثر موجات الحر اللافحة والله أعلم ... وعلى دروب العلم نلتقي فنستقي ونرتقي.
جمادى الأولى 1430هـ *عضو هيئة التدريس بقسم الجغرافيا بجامعة القصيم.
|
|||
|